سورة هود - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أردفه بما يدل على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى، فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: الدابة اسم لكل حيوان، لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب، وبنيت هذه اللفظة على هاء التأنيث، وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكراً كان أو أنثى، إلا أنه بحسب عرف العرب اختص بالفرس، والمراد بهذا اللفظ في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات، وهذا متفق عليه بين المفسرين، ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال، والله يحصيها دون غيره، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها، وما يوافقها وما يخالفها، فالإله المدبر لإطباق السموات والأرضين؛ وطبائع الحيوان والنبات، كيف لا يكون عالماً بأحوالها؟ روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي إليه تعلق قلبه بأحوال أهله، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ثانية؛ ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني.
المسألة الثانية: تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية وقال: إن كلمة (على) للوجوب، وهذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله.
وجوابه: أنه واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان.
المسألة الثالثة: تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حراماً، قالوا لأنه ثبت أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد وبحسب الاستحقاق، والله تعالى لا يحل بالواجب، ثم قد نرى إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه، فيكون تعالى قد أخل بالواجب وذلك محال، فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقاً، وأما قوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} فالمستقر هو مكانه من الأرض والمستودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة، وقال الفراء: مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه، وقد مضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام، ثم قال: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} قال الزجاج: المعنى أن ذلك ثابت في علم الله تعالى، ومنهم من قال: في اللوح المحفوظ، وقد ذكرنا ذلك في قوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].


{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}
واعلم أنه تعالى لما أثبت بالدليل المتقدم كونه عالماً بالمعلومات، أثبت بهذا الدليل كونه تعالى قادراً على كل المقدورات وفي الحقيقة فكل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته.
واعلم أن قوله تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قد مضى تفسيره في سورة يونس على سبيل الاستقصاء. بقي هاهنا أن نذكر {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} قال كعب خلق الله تعالى ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء، قال أبو بكر الأصم: معنى قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} كقولهم: السماء على الأرض. وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر وكيف كانت الواقعة فذلك يدل على أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض، وقالت المعتزلة: في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما، لأنه لا يجوز أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض والماء، لأنه تعالى لما خلقهما فإما أن يكون قد خلقهما لمنفعة أو لا لمنفعة والثاني عبث، فبقي الأول وهو أنه خلقهما لمنفعة، وتلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله وهو محال لكونه متعالياً عن النفع والضرر أو إلى الغير فوجب أن يكون ذلك الغير حياً، لأن غير الحي لا ينتفع. وكل من قال بذلك قال ذلك الحي كان من جنس الملائكة، وأما أبو مسلم الأصفهاني فقال معنى قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} أي بناؤه السموات كان على الماء، وقد مضى تفسير ذلك في سورة يونس، وبين أنه تعالى إذا بنى السموات على الماء كانت أبدع وأعجب، فإن البناء الضعيف إذا لم يؤسس على أرض صلبة لم يثبت، فكيف بهذا الأمر العظيم إذا بسط على الماء؟ وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السموات والأرض؟
والجواب: فيه دلالة على كمال القدرة من وجوه:
الأول: أن العرش كونه مع أعظم من السموات والأرض كان على الماء فلولا أنه تعالى قادر على إمساك الثقيل بغير عمد لما صح ذلك، والثاني: أنه تعالى أمسك الماء لا على قرار وإلا لزم أن يكون أقسام العالم غير متناهية، وذلك يدل على ما ذكرناه.
والثالث: أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، وذلك يدل أيضاً على ما ذكرنا.
السؤال الثاني: هل يصح ما يروى أنه قيل يا رسول الله، أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض؟ فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء.
والجواب: أن هذه الرواية ضعيفة، والأولى أن يكون الخبر المشهور أولى بالقبول وهو قوله صلى الله عليه وسلم كان الله وما كان معه شيء، ثم كان عرشه على الماء.
السؤال الثالث: اللام في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} يقتضي أنه تعالى خلق السموات والأرض لابتلاء المكلف فكيف الحال فيه؟ والجواب ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكثير لمصلحة المكلفين، وقد قال بهذا القول طوائف من العقلاء، ولكل طائفة فيه وجه آخر سوى الوجه الذي قال به الآخرون، وشرح تلك المقالات لا يليق بهذا الكتاب. والذين قالوا إن أفعاله وأحكامه غير معللة بالمصالح قالوا: لام التعليل وردت على ظاهر الأمر، ومعناه أنه تعالى فعل فعلاً لو كان يفعله من تجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض.
السؤال الرابع: الابتلاء إنما يصح على الجاهل بعواقب الأمور وذلك عليه تعالى محال، فكيف يعقل حصول معنى الابتلاء في حقه؟
والجواب: أن هذا الكلام على سبيل الاستقصاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى في أول سورة البقرة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
واعلم أنه تعالى لما بين أنه خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم فهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر، لأن الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب، وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة، فعند هذا خاطب محمداً عليه الصلاة والسلام وقال: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ومعناه أنهم ينكرون هذا الكلام ويحكمون بفساد القول بالبعث.
فإن قيل: الذي يمكن وصفه بأنه سحر ما يكون فعلاً مخصوصاً، وكيف يمكن وصف هذا القول بأنه سحر؟
قلنا: الجواب عنه من وجوه:
الأول: قال القفال: معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم.
الثاني: أن معنى قوله: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} هو أن السحر أمر باطل، قال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] فقوله: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي باطل مبين.
الثالث: أن القرآن هو الحاكم بحصول البعث وطعنوا في القرآن بكونه سحراً لأن الطعن في الأصل يفيد الطعن في الفرع.
الرابع: قرأ حمزة والكسائي {إِنْ هذا إِلاَّ ساحر} يريدون النبي صلى الله عليه وسلم والساحر كاذب.


{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أباطيلهم وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم به أخذوا في الاستهزاء ويقولون: ما السبب الذي حبسه عنا؟
فأجاب الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزؤن به لم ينصرف ذلك العذاب عنهم وأحاط بهم ذلك العذاب. بقي هاهنا سؤالات:
السؤال الأول: المراد من هذا العذاب هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟
الجواب: للمفسرين فيه وجوه:
الأول: قال الحسن: معنى حكم الله في هذه الآية أنه لا يعذب أحداً منهم بعذاب الاستئصال وأخر ذلك إلى يوم القيامة، فلما أخر الله عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء ما الذي حبسه عنا؟ والثاني: أن المراد الأمر بالجهاد وما نزل بهم يوم بدر، وعلى هذا الوجه تأولوا قوله: {وَحَاقَ بِهِم} أي نزل بهم هذا العذاب يوم بدر.
السؤال الثاني: ما المراد بقوله: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}.
الجواب من وجهين:
الأول: أن الأصل في الأمة هم الناس والفرقة فإذا قلت: جاءني أمة من الناس، فالمراد طائفة مجتمعة قال تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ} [القصص: 23] وقوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا هاهنا قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} أي إلى حين تنقضي أمة من الناس انقرضت بعد هذا الوعيد بالقول، لقالوا ماذا يحبسه عنا وقد انقرض من الناس الذين كانوا متوعدين بهذا الوعيد؟ وتسمية الشيء باسم ما يحصل فيه كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر، أي في ذلك الحين.
الثاني: أن اشتقاق الأمة من الأَم، وهو القصد، كأنه يعني الوقت المقصود بإيقاع هذا الموعود فيه.
السؤال الثالث: لم قال: {وَحَاقَ} على لفظ الماضي مع أن ذلك لم يقع؟
والجواب: قد مر في هذا الكتاب آيات كثيرة من هذا الجنس، والضابط فيها أنه تعالى أخبر عن أحوال القيامة بلفظ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8